[center]
القرآن والسنة يشتملان على حكم كل شيء
بقلم: الدكتور أيمن الشوا *
قال الله تعالى
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) {المائدة 5/3 } , وقال تعالى : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) {الأنعام 6/38 } , وقال تعالى منوَّها ً بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم : (لتبين للناس ما نزل إليهم) {النحل 16/44 } .
وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : اللهم , ألا هل بلغت ؟ قالوا : نعم , قال : اللهم اشهد . {رواه البخاري 2/620 رقم 1654} .
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (من أراد العلم فْليُُثر القرآن , فإن فيه علم الأولين و الآخرين ) {1} .
وبعد :
فليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن , فصح بنص القرآن انه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه . ونص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى احد من الناس , ولا إلى رأي ولا إلى قياس , لكن إلى نص القرآن و إلى رسوله صلى الله عليه وسلم , مصداقا ً لقوله عليه الصلاة والسلام : (ما تركت شيئا ً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به , و لا تركت شيئا ً مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه) .
قال تعالى
يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ً ){النساء 4/59 } .
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله , وأعاد الفعل إعلاما ً بأن طاعة الرسول تجب استقلالا ً من غير عرض ما أمر به على الكتاب , بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا ً, سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه , فإنه أوتي الكتاب ومثله معه .
قال ابن القيم:
(وقد تضمن البيان القرآني أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام , ولا يخرجون بذلك عن الإيمان , إذا ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما شرطه الله عليهم , ونلمح أن قوله
فإن تنازعتم في شيء) نكرة في سياق الشرط تعم كل ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دقه وجله , جليه وخفيه , ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه , ولو لم يكن كافيا ً لم يأمر بالرد إليه , إذ من الممتنع أن يأمر الله تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع) {2}
وقال ابن السيد البطليوسي {3}:
(إن اختلاف الناس في الحق لا يوجب اختلاف الحق في نفسه , و إنما تختلف الطرق الموصلة إليه , والحق في نفسه واحد) وما أجمل قول الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر {4}
وقال آخر:
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه على قدر القرائح والعلوم {5}
وقد نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية سنته وخطورة شأنها , وضرورة العناية بها , فيما رواه أبو داوود عن المقدام بن معديكرب أن رسول الله صلى الله غليه وسلم قال :
(ألا إنني أوتيتُ القرآنَ ومثله معه , ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول:
عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وحدتم فيه من حرام فحرموه . و إن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله) {رواه أبو داوود في سننه 4/200 رقم4604}
ولا شك أن غنى النص بالمفاهيم والمعاني المختلفة هو الذي يهبه خاصيَّة البقاء , كما في حال النص القرآني والسنة الشريفة . وما علينا إلا التفكر والتدبر .
والذي يجب على كل مسلم إعتقاده : أنه ليس في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة سنة واحدة تخالف كتاب الله , بل السنن مع كتاب الله على ثلاثة منازل:
- المنزلة الأولى: سنة موافقة شاهدة بنفس ما شهدت به الكتب المنزلة.
- المنزلة الثانية: سنة تفسَّر الكتاب , وتبين مراد الله منه , وتقيد مطلقه.
- المنزلة الثالثة: سنة متضمنة لحكم ٍ سكَت عنه الكتاب فتبينه بيانا ً مبتدأ.
قال ابن القيم : والذي نشهد الله ورسوله به : أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض كتاب الله وتخالفه البتة . كيف؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين لكتاب الله , وعليه أنزل , و به هداه الله . وهو مأمور بإتباعه , وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده {6} , فالذي جاءت به الشريعة لا مزيد من الحسن والحكمة والعدل عليه ولله الحمد.
أدلة القرآن والسنة:
إن أدلة القرآن والسنة نوعان:
أحدهما يدل بمجرد الخبر , والثاني يدل بطريق التنبيه على الدليل العقلي , والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية , التي هي آيات الله الدالة على ربوبيته , و وحدانيته , وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته , فآياته العيانية المشهودة في خلقه تدل على صدق النوع الأول , وهو مجرد الخبر , ولم تتجرد أخباره_سبحانه_عن آية تدل على صدقها, بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق رسوله ما فيه هدى وشفاء {7} .
فلا تجد كتابا ً قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن الكريم , قال السيوطي في الإتقان : النوع الثامن والستون:
قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة , وما من برهان و دلالة وتقسيم وتحذير تبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا و كتاب الله قد نطق به , لكن أورده على عادة العرب دون دقائق طرق المتكلمين لأمرين:
أحدهما : بسبب ما قاله
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) {إبراهيم 4}
والثاني : أن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام , فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون , ولم يكن ملغزا ً , فأخرج تعالى مخاطبته في محاجَّة خلقه في أجلى صورة, ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة , وتفهم الخواص في أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء .
قال ابن أبي الإصبع: زعم الجاحظ أن المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن , وهو مشحون به , وتعريفه انه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاندة فيه على طريقة أرباب الكلام . ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة, فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله: (وأن الله يبعث من في القبور ) {الحج7} - خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات , قوله: (ذلك بأن الله هو الحق) {الحج6} لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظما ً لها , وذلك مقطوع بصحته, لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته, منقول إلينا بالتواتر, فهو حق , ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق , فهو الولي.
و أخبر تعالى أنه يحيي الموتى , لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر,و حصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال التي يعلمها الله من أجلهم.
وقد ثبت أنه قادر على كل شيء , ومن الأشياء إحياء الموتى , فهو يحيي الموتى.
و أخبر تعالى أنه على كل شيء قدير, لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ومن يجادل في الله بغير علم - يذقه من عذاب السعير , ولا يقدر على ذلك إلا من هو على كل شيء قدير, فهو على كل شيء قدير.
و أخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها , لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله: (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) {الحج5} وضرب لذلك مثلا ً بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربو , وتنبت من كل زوج بهيج . ومن خلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت, ثم يعيده بالبعث , وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل, ثم أحياها بالخصب , وصدق خبره في ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب , حتى انقلب الخبر عيانا ً - صدق خبره في الإتيان بالساعة , ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث من في القبور, لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة , فهي آتية لا ريب فيها , و هو سبحانه يبعث من في القبور .
و قال غيره: استدل سبحانه على المعاد الجسماني بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء , قال
كما بدأكم تعودون) {الأعراف 29 } (كما بدأنا أول خلق نعيده) {الأنبياء 104} (أفعيينا بالخلق الأول) {ق 15}
ومنها القول بالموجب , قال ابن أبي الإصبع : وحقيقته رد كلام الخصم من فحوى كلامه .
وقال غيره هو قسمان :
أحدهما : أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم, فيثبتها لغير ذلك الشيء كقوله تعالى
سيقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة...){المنافقون 8} فالأعز وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم,و الأذل كناية عن فريق المؤمنين , و أثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة , فأثبت الله في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم, و هو الله و رسوله والمؤمنون , وكأنه قيل : صحيح ذلك ليخرجن الأعز منها الأذل , لكن هم الأذل المُخْرَج, و الله ورسوله الأعز المُخِْرج .
والثاني : حمل لفظ واقع في كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله , بذكر متعلَّقه, ولم أر من ذكر له مثالا ً من القرآن. وقد ظفرت بآية منه, وهي قوله تعالى
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم) {التوبة 61}
و منها : التسليم ,وهو أن يفرض المحال , إما منفيا ً أو مشروطا ً بحرف الامتناع, ليكون المذكور ممتنع الوقوع لامتناع وقوع شرطه ثم يسلم وقوع ذلك تسليما ًجدليا ً, ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه , كقوله تعالى
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا ً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) {المؤمنون 91} . المعنى ليس مع الله إله , ولو سلم أن مع الله إلها ً لزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله من الإثنين بما خلق , و علو بعضهم على بعض فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم ولا تنتظم أحواله. والواقع خلاف ذلك ,ففرض إلهين فصاعدا ً محال , لما يلزم عليه من المحال .
ومنها : الإسجال , وهو الإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به , نحو قوله تعالى
ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك) {آل عمران 194} (ربنا و أدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) {غافر 8} فإن في ذلك إسجالا ً بالإيتاء و الإدخال , حيث وصفا بالوعد من الله الذي لا يخلف وعده .
ومنها : الإنتقال , وهو أن ينتقل المستدل إلى استدلال غير الذي كان آخذا ً فيه, لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الأول , كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له :
(ربي الذي يحيي ويميت) {البقرة 258} فقال الجبار: أنا احيي و أميت , ثم دعا بمن وجب عليه القتل فأعتقه ومن لا يجب عليه القتل فقتله , فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء و الإماتة أو علم بذلك وغالط بهذا الفعل , فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد له الجبار وجها ً يتخلص به منه فقال
فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) {البقرة 258}فانقطع الجبار وبهت ولم يمكنه أن يقول : أنا آتي بها من المشرق لأن من هو أسن منه يكذبه.
ومنها : المناقضة , وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه , كقوله تعالى: (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) {الأعراف 40}
ومنها :مجاراة الخصم ليعثر , بأن يسلم بعض مقدماته حيث يراد تبكيته و إلزامه , كقوله تعالى : (إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا) {إبراهيم 11/10} فقوله
إن نحن إلا بشر مثلكم) فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية ,فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم ,وليس مرادا ً بل هو من مجاراة الخصم ليعثر فكأنهم قالوا : ما ادعيتم من كوننا بشرا ً حق لا ننكره , ولكن هذا لا ينافي أن يمنَّ الله علينا بالرسالة .
فالمقصود أن القرآن مملوء بالاحتجاج (
, وفيه جميع أنواع الأدلة و الأقيسة الصحيحة. وأمر الله تعالى ورسوله فيه بإقامة الحجة والمجادلة , فقال تعالى
وجادلهم بالتي هي أحسن){النحل 16/125} وقال
و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) {العنكبوت 29/46} وهذه مناظرات القرآن مع الكفار موجودة فيه , وهذه مناظرات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لخصومهم و إقامة الحجج عليهم , لا ينكر ذلك إلا جاهل مفرط في الجهل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ثور القرآن و الإتقان للسيوطي 2/185: بحث عن علمه و فاتش العلماء في تفسيره ومعانيه . (اللسان؛ثور)
2- أعلام الموقعين 1/49
3- الإنصاف 96
4- الإتقان للسيوطي 1/5
5- الأبيات لأبي الطيب المتنبي
6- مختصر الصواعق المرسلة: 73 .
7- مختصر الصواعق المرسلة : 97 .
8- وقد خص الإمام الرازي كتابا ً في ذلك سماه حجج القرآن , وللإمام الشافعي كتاب الحجة , صنَّفه في العراق سنة سبع وسبعين ومئة .
*- أستاذ النحو والصرف في جامعة دمشق وفي قسم التخصص في معهد الفتح الإسلامي